كتب فضيلة الشيخ ربيع قبيسي
جانب القاضي الدكتورة نجاة أبو شقرا المحترمة
تحيّةً طيبة، ملؤها الإيمان بالإنسان، واحترامًا لدور العدالة، وتقديرًا لكل عقلٍ يجهد في خدمة هذا الوطن المتعب.
شَدَّني في ردّكم الأخير (حول القضاء والحجاب)، ذلك النَّفَس الهادئ الذي يخرج من عقلٍ يريد أن يضع الأمور في نِصَابِها، وأن يحفظ للقضاء قدسيّته، وللدولة وقارها، وللناس حقّهم في عدالةٍ لا غبار عليها.
ولستُ في مخاطبتِكُم، بصدد مجادلةٍ أو سِجَال، ولا مِمَّن يدخل في حسابات الطائفية التي أؤمن أنّها آفّةُ الوطن وابتلاؤه.
إنّما أكتب إليكم من باب التساؤل المشروع، ومن موقع مواطن لبناني، ورجل دينٍ يرى في الحوار واجبًا، وفي الدولة بيتًا للجميع.
لقد أصبتُم حين وضعتم النقاش في إطاره المبدئي: القضاء سلطة عامة، ورموزه يجب أن تكون محجوبة عن الانتماءات والشعارات.
غير أنّني من موقع انغراسي في المجتمع اللبناني بتنوّعاته أجِدُ أنّ النقاشَ القانوني لا يمكن عزله عن الواقع اللبناني كما هو، لا كما نتمنّاه.
فنحن في وطنٍ يعرف بعضَه بعضًا، المنطقة تقول من فيها، والعائلة تقول تاريخها، والاسم يكشف بيئته الدينية أو المذهبية، والتعيينات نفسها -شاء الجميع أم أبى- محكومة بمعادلات (ستة وستة مكرّر).
وفي بلدٍ صغيرٍ إلى هذا الحدّ،
لا يحتاج المواطن إلى الحجابٍ أو الصليبٍ أو الملحفّ أو الزيٍّ الديني حتى يعرف خلفية القاضي، فهو يعرفها من انتمائه المناطقي والعائلي والاجتماعي.
ولبنان، منذ نشأته، لم يكن يومًا فضاءً محايدًا لهذه الدرجة، بل فسيفساء تتعايش، لا لوحة ممسوحة المعالم.
من هنا، يبرز السؤال الذي أطرحه بكل احترام:
هل الحياد القضائي يُصان بمنع الرمز الظاهر، أم بِصَون الضمير المسؤول، وتحصين القاضي، وتأمين ثقافة مؤسّساتيّة تُبعد التدخلات وتردع الضغوط؟
وهل ينهار حياد القاضي إن عرف الناس ما يعرفونه أصلًا؟
أم أنّ العدالةَ تُبنى قبل كل شيء في النزاهة والجرأة والاستقلال، والكفاءة لا في الشكل الخارجي؟
لا أكتب هذا دفاعًا عن زيٍّ أو طائفة، ولا طلبًا لامتيازٍ ديني، ولا دفاعًا عن الحجاب الإسلامي،
فالقانون لا يمنع المحجّبة من أن تكون مواطنة، وقاضية، ومعلمة، وفي كل مواقع التقدّم والرقيّ،
بل حرصًا على ألا يُصبح حياد القضاء شكلًا .. فيما الواقع ينطق بما هو أعمق وأوضح.
وأقدّر فيكم حضرة القاضي شجاعتكم في توسيع النقاش ليشمل الراهبة والدرزيّة الملفّحة، فهذا إنصافٌ مهمّ. لكنّ الإنصاف ذاته يدفعنا إلى التفكير:
هل الحلّ هو المنع الشامل؟
أو دفن الكفاءات لدى النساء المحجّبات؟
في بلدة أصبحت النساء تُشكّل فيه ما يقارب ٤٥٪ من القضاء. (وهذا مدعاة فخر وتقدير واحترام).
أم البحث عن صيغة تتيح الجمع بين حقّ الفرد في هويّته الشخصيّة و حقّ المجتمع في مؤسّسة قضائيّة صلبة ومحايدة بالفعل؟
يا سيّدَة العدالة،
لسنا مُختَلفين على الهدف، بل على الطريق إليه.
وما أتمنّاه من قلب رجل دينٍ يرى لبنان أكبر من جدران الطائفيّة أن نصلَ إلى دولةٍ تكون ثقتها بقضاتها أقوى من خوفها من لباسهم، وأن يكونَ الرمز الأخطر الذي يجب منعه هو التدخل السياسي، لا حجاب امرأةٍ التزمت بواجبٍ ديني، أو ثوب راهبةٍ كرّست حياتها، أو زيّ امرأةٍ درزية حملت إرث تقليدها.
أكتب إليكم بكل احترام،
وبكل يقين أنّكم من القضاة الذين يفتحون باب الحوار بدل أن يغلقوه،
وأنّ العدالة في لبنان تحتاج إلى أصواتٍ هادئة مثلكم ..
كما تحتاج إلى شراكة صادقة بين أهل القانون وأهل الدين وأهل الفكر، لنبني وطنًا لا يخاف من تنوّعه، بل يحسن إدارته.
فأنا أؤمن بأنّ العدالة لا تُحجَب .. بل تُصان.
وتفضّلوا بقَبول فائق التقدير والاحترام.
الشيخ ربيع قبيسي
مدينة صور
١٢/١٢/٢٠٢٥
